المجلس الوطني الكوردي في سوريا

محمود عباس: إشكالية وجود كوردستان تاريخياً..

53

في عام 1986م كنا مجموعة من الطلاب الكورد، الدارسون في الاتحاد السوفيتي، نقضي العطلة الصيفية على ساحل البحر الأسود، بالقرب من المنطقة المزمع عقد المؤتمر السوري فيها (سوتشي) بين قرابة مئتي طالب من معظم دول العالم. كان يشرف علينا المسؤول الروسي عن الأجانب من جامعة موسكو، التي كنت أحاضر فيها لنيل شهادة الدكتوراه، وكان لي معرفة به، لم أستسيغه يوماً.
بعد أسبوع من وصولنا تم التحضير لمسيرة طلابية ضمن المنتجع، بمناسبة يوم الشرق الأوسط. طلبنا من المسؤول، ككورد، أن تكون مجموعتنا مستقلة عن الدول المحتلة لكوردستان، وبلافتاتنا الخاصة. وكانت الشعارات تطبع على اللافتات بعد الموافقة، فحينها برز جدال بيننا وبين المسؤول، وتطور إلى أن سألنا وببسمة فيها مسحة من التهكم، السؤال الذي كثيراً ما نسمعه من المناهضين للقضية الكوردستانية، ويلوحه العديد من السياسيين والمثقفين العروبيين والأتراك والفرس، عندما تضعف الحجة عندهم أمام أحقية القضية الكوردستانية، ” “هل كانت هناك دولة باسم كوردستان في التاريخ؟” أي هل هناك وجود تاريخي لكوردستان؟ وهل كان للكورد كيان سياسي سابقاً؟ عملياً السؤال وبشكل عام يضمر معناً مغرضاً فيه الكثير من الحقد قبل البعد المعرفي. ولسان حال معادي الشعب الكوردي يقول، هل الكورد شعب يستحق بأن تكون لهم دولة، أو هل هم يعرفون أو لهم القدرة على إدارة الدولة؟ تعكس في عمقه الصور النمطية الدونية عن الشعب الكوردي، والتي رسختها الأنظمة الشمولية الفاسدة عنهم.
سؤال قد يؤدي إلى رد فعل غير منطقي من قبل شريحة من الإخوة الكورد، ولكن وعند التمعن سيتبادر إلى ذهننا في مواجهة هذا السؤال، عدة أوجه تعكسها السؤال بحد ذاته، بغض النظر عن الجواب، ومنها جهالة طارحيها بتاريخ كوردستان، أو التغاضي عنه عمداً، وتعمد الأعداء على فبركة تاريخنا وتاريخ المنطقة بشكل عام، وضعفنا مقابل ما نشروه عن الكورد من تاريخ مزور، وعدم قدرتنا على إعادة ما تم إتلافه وتضييعه، أو إحياء الصفحات الحضارية لثقافة وآداب الكورد التي عبثت بها القبائل العربية الغازية البدائية أولا والفارسية بدءً من دولتهم السامانية ومن ثم الصفوية فيما بعد وأكملتها العثمانية، إلى أن أتممت عليهم فرنسا وبريطانيا.
من صفات الشعوب الضعيفة والمغلوبة على أمرها، ومن بينهم نحن الكورد، تجريم الإمبراطوريات والدول المهيمنة على ما هم عليه من الضعف، متناسين أنه هناك عوامل أخرى ساهمت على بقائنا تحت هذا المصير المؤلم، واستمرارية هذا القدر. والرد المباشر على ذاك السؤال سيكون خالياً من الحكمة، وهو ما ينتظره عادة الشخص الطارح، ومن الحكمة معرفة فيما إذا كان لصاحبها أية خلفية تاريخية ليس فقط عن الشعب الكوردي بل عن المنطقة ككل؟
علينا أن ندرك حقيقة، وهي أن قضية الأمة الكوردية، أو أية أمة، لا تتعلق بوجود كيان سياسي أو عدمه، فهناك العديد من الشعوب لها دول وأنظمة سياسية، لكنها تعيش المآسي، أو وفي عزلة عن أنظمتها، وبعضها تناضل من أجل قضايا وليست فقط قضية إثبات وجودها أو عدمه، وتعمل المستحيل لإسقاط سلطاتها، فالحدود السياسية التي تشكلت في بدايات القرن الماضي أو على شاكلتها لم تقدم حلولاً مرضية لشعوبها، وهي ليست بالنماذج التي يجب أن تقاس عليها الجغرافيات الماضية للشعوب، فالشعب الكوردي أو الأمازيغي أو غيرهم كانوا وعلى مر التاريخ ورغم مرور إمبراطوريات على جغرافيتهم، أصحاب أرض، هم مالكوها الأصلاء بأغلبية ديمغرافية ساحقة، قبل أن تظهر إلى الوجود الدول الحديثة بل وحتى الإمبراطوريات السابقة التي زالت أو التي بنيت على ركامها الدول الحاضرة، ونحن هنا لا ننوه إلى الدول والكيانات السياسية التي أسسها الكورد تحت أسماء مختلفة، أو شاركوا فيها، بل عن جغرافية كوردستانية متكاملة العوامل قابل ليكون كيان سياسي قائم بذاته.
العودة إلى التنقيب عن صفحات التاريخ، وتذكير من يحتاج إلى تذكيره، سيكون عبثاً، فلو كانوا فعلا يبحثون عن معرفة، لوجدوا المئات من الدراسات الأكاديمية التي تبين مدى العمق التاريخي للوجود الكوردي في كوردستانه، حتى وإن كانت تعرف في الماضي السحيق بأسماء أخرى غير كوردستان، والتنوع في الصفات والأسماء التي عرفت بها كياناتهم السياسية، إن كانت إمبراطوريات أو إمارات أو سلطنات، دلالة أخرى على شمولية عراقتهم الراسخة في التاريخ، وهي من أهم الأسباب التي ساندت الأمة الكوردية بعدم ذوبان ديمغرافيتها، والحفاظ على لغتها ضمن جغرافيتها الكوردستانية رغم الكوارث والمؤامرات التي خططت لها القوى المعادية، لإذابتهم أو تهجيرهم، وعدم الضياع أمام اجتياحات اللغة العربية عن طريق الإسلام والنص الإلهي، مثلما حدثت للعديد من شعوب المنطقة واستعربوا، ولا داعي هنا إلى تذكير البعض بأسمائهم وأسماء الكيانات السياسية الكوردية الماضية، والدخول في سجالات عقيمة مع من ينكرونها سلفاً لحقد أو عن جهالة.
كما وعدم ظهور كيان سياسي في بداية القرن الماضي أو على صفحة التاريخ باسم كوردستان تيمماً بالدول التي أنشأها الاستعمار البريطاني-الفرنسي في المنطقة أو الماضية المسجلة لاحقاً تحت الصفة القومية، لا تلغي حق الشعب الكوردي بإقامة كيانه السياسي الخاص به في هذه المرحلة أو اللاحقة، وعلى جغرافيته، وبالاسم الكوردستاني، وسوف لن تكون كالكيانات اللقيطة التي لم تقدم ذاتها أو ترقى إلى الصفة القومية لشعوب تلك الدول، كدولة لبنان وقطر والبحرين والسودان وإيران وحتى السعودية وغيرها، وبرزت على الساحة بالصفات القبلية أو العائلية، أو تدعي الأمة مجازاً، وتستخدم الغطاء القومي لترسيخ مصالح شريحة على مصالح الأمة، أو كتلك التي تتحدث باسم قومية وهي ليست بأكثر من أنظمة استعمارية للشعوب الأصلية، أصحاب الأرض، كتركيا ودول شمال أفريقيا، ودول أخرى ومن بينها المحتلة لكوردستان. وفي الفترة الأخيرة وبعدما التهبت الشرق الأوسط بدأ معظم هؤلاء يروجون للمفهوم الوطني للحفاظ على تماسك جغرافياتهم المتعارضة مع جغرافيات شعوب المنطقة، متخليين عن الاستنادات التاريخية لتشكل كياناتها السياسية، وتركوا التلويح بصفحات التاريخ المفبرك والمزور، خاصة بعد أن تعرت خدعهم على أثر الثورة التكنلوجية الانترنيتية.
ورغم كل هذا، وفي خضم الثقافات العنصرية المتلاطمة والمهيمنة على شعوب المنطقة، وخاصة التي ترسخها الأنظمة الشمولية العنصرية، سيبقى السؤال المبطن حاضراً في لا شعور المعادين للقضية الكوردية، دون انتظار الرد المناسب أو البحث عنه، مثل الجواب الذي لن يقنعهم مهما كان حكيما ومنطقياً.
وبسبب الأحداث المتلاحقة، تم تجاوز هذا السؤال في هذه المرحلة، وزاد مخاوفهم لاقتراب فرصة الشعب الكوردي بالظفر لحقوقه، فيكثرون من الحديث عن الوطنية، ويلوحون بالدولة المدنية، لانثناء الكورد عن هدفه.

المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر الموقع.

التعليقات مغلقة.