المجلس الوطني الكوردي في سوريا

خليل عثمان : موت المروءة …

74

أهدي قصتي “موت المروءة” إلى الذين لا زالوا يحتفظون ببقايا عاداتنا الأصيلة وقيمنا النبيلة .

مع الشكر الخاص للصديق حنان عباس …

كان يصول ويجول في محيط متوغل في متاهات البدائية والبساطة ، يقطع طرقها سيرا”على قدميه ، وهيئته يجعله كمتسول مغلوب على أمره وهو يرتدي ذلك الجلباب الذي فقد لونه من آثار صراعه مع الزمن .

وها هو يمضي كزورق عائم فوق بحر هائج ،  يسير هائما” على وجهه يجهل مقصده ، ويتعاظم شعوره بالوحدة والضياع كما في كل يوم جديد من حياته العبثية .

لقد قضى سنوات عمره متنقلا”من مكان لآخر دون ان يعرفه احد ، أو يجد سبيلا” للأستقرار ودون أن يخمن ما يخفي له القادمات من الأيام .

ولكن لا تزال اسعد لحظاته هي تلك التي يهرب فيها من زحمة الناس ويختلي بنفسه ويطمئن أنه بمأمن من البشر ، يمشي وحيدا” سارحا”في عالم سريالي يمرح فيها خياله ، حالما” بمعدة مليئة بالطعام وسقف يحميه وزوجة تملأ حياته …!

إنه يوم آخر له في هذه البقعة الموحشة التي تشبه مملكة الأشباح ، حيث الغيوم التي تحجب الشمس والمساء الذي اقبل دون استئذان ، والصمت المخيم على تفاصيل الطبيعة العذراء …!

نظر حوله فلم ير شيئا” وحتى الطيور بدت وكأنها هربت من السماء …

في تلك الأجواء اعترض شطحاته الخيالية مشهد  شيء ما قادم من بعيد …؟

وأخذ يقترب شيئا” فشيئا” ، اما هو فبدأ يمعن النظر الى هذا المقبل بفضول وترقب كالوحش الذي ينتظر فريسته !

دنا منه أكثر اتضحت ملامحه وإذ به فارس على  ظهر جواد …!

ودون ان يكلف نفسه عناء التفكير تحول الى رجل اعرج يجر إحدى قدميه ويسير بصعوبة بالغة كالمشلول ، ويثير شفقة من يراه وهو بتلك الهيئة البائسة .

جرى كل ذلك بلمح البصر !

القى عليه الفارس السلام وتوقف يستفسر عن حاجته …؟

اجابه دون تردد :  اريد الوصول الى القرية الواقعة وراء تلك الهضبة ولكنني اشعر بالتعب الشديد ويبدو انني لن ابلغها قبل منتصف الليل …!

بتلك الجملة لخص معاناته ومطلبه .

ترجل الفارس وطلب منه ان يمتطي الحصان ووعده بان ينقله الى حيث يريد ، وهو يبدي إشفاقه وتعاطفه مع هذا المعاق البائس !

وهكذا عاد الفارس ادراجه وبدأ بالمسير معه عائدا”من حيث اتى ، والأعرج على ظهر الجواد يفرح في سره وهو يسترق النظر الى البارودة الفاخرة على كتف الرجل النبيل بين الحين والآخر بشيء من الخبث والبلاهة  .

اخذا يتبادلان اطراف الحديث ….ثم صمتا برهة …!

بعد ان بلغوا منتصف الطريق استأنف الأعرج الكلام متسائلا” : ألا تتعبك تلك البارودة عارضا” عليه ان يسلمه حمله ؟

لفظ جملته بصوت حانق نافذ الصبر ووجهه يزداد عبوسا” ، ولكنه في الاعماق كان ينتشي بالفوز  الذي استولى عليه لأول مرة وكأن به يصعد الى الأعالي كما الصقر الذي يملك السماء …!

عندما اكمل فصول مسرحيته التراجيدية بالاستيلاء على كل ما يريد ، بدأت ضربات قلبه تزداد وهو يقترب من إنهاء ما خططه بخبث ودهاء .

مضت تلك اللحظات ببطئ شديد ، وأخيرا” ضرب بكلتا قدميه الحصان ولوح بالسوط مطلقا”صيحة آمرة للحصان الذي اندفع جامحا” وقفز يجري ويسبق الريح ويبتعد عن صاحبه الذي أذهله الموقف وهو يرى بأم عينيه مشهدا”  لم يخطر بباله قط ، لقد فعلها ونال منه ولم يعد بإمكانه اللحاق به …!

للحظة شعر بخيبة امل  ولكن غضبه اشتد اكثر عندما تلقى اذناه كلمة الوداع الساخرة  بصوت متهكم من لص لئيم ضرب كل القيم والأعراف عرض الحائط .

صاح الرجل النبيل بأعلى صوته :

ايها السارق قف ….

لدي ما اقوله لك قبل ان تمضي ، لقد نلت مني ولكن لي رجاء  …؟

لدي الكثير لأمنحك أياه لو اردت ذلك ، ولكن مقابل أن لا تتحدث للناس عن كل ما جرى بيننا ،

فعندما تمضي وتجد من يستفسر من اين لك الحصان والبارودة ؟

رجائي أختر ماشئت من القصص إلا الحقيقة ، فوالله لو سمعوا منك ما جرى بيننا فلن تبقى للمروءة مكان على وجه الارض !؟

أصاب السارق صدمة” اذهلته !

لم يشعر الا وعيناه تدمعان ، ما سمعه من الرجل هو آخر ما توقعه ، ايعقل ان يكون مهتما” بالقيم  والمروءة متناسيا”مصيبته …!

اي غريم هذا …؟؟؟

لقد فعلت كلمات الرجل فعلتها باللص الذي شعر بالإحباط والدونية وبدا كمن فاق من غيبوبة طويلة او من حلم في منتصف النهار ،  عاد الى حيث الرجل النبيل هبط عن الجواد لم يستطع ان ينطق بكلمة ، كانت رغبته في الإعتذار جامحة ولم يتمكن من فعلها….!

سلمه كل شيء وأخذ يمضي مطأطئ الرأس متشتت الذهن.

اكمل مسيره متوغلا” ذلك الطريق المتعرج المفروش بالرمال يلف وجهه ابتسامة حزينة دون ان يدرك سببها ، فالألم أخذ يعصر صدره ، وقلبه المنكسر اخذ ينادي الصمت الرهيب من حوله بصوت يملئه الدهشة والأسى …!

وتحول الى ما يشبه السراب عندما اخذت المسافه تزداد بينه وبين غريمه الذي لقنه درسا” لن يبرح من ذاكرته مهما طال الزمن …!

في تلك الأثناء كانت البراري تزداد اتساعا” بينما زخات المطر تتساقط بغضب وتنشر عبق التراب في كل الأرجاء …!

اما هو فكان يسير تائها” ، كريشة حمامة تتقاذفها الرياح …!

ولكنه وللمرة الأولى أصبح يدرك بالمسافات التي تفصل بين النبلاء والصعاليك …!؟؟؟

الكاتب : خليل عثمان 

التعليقات مغلقة.