المجلس الوطني الكوردي في سوريا

أيتام المنتخب الوطني ….

77

 

بينما كانت تجري مباراة المنتخب السوري مع نظيره القطري، كانت مشاعر شديدة التباين تتقاذف ملايين المُتابعين السوريين. يميلون للغبطة لأن منتخب سوريا يقترب خطوة نحو التأهل لنهايات كأس العالم، الحُلم الذي رافقهم مُنذ كانوا صغاراً، ثم ينتبهون فجأة أن هذه التشكيلة من اللاعبين والمُدربين والإداريين، بتابعيتها ورموزها وأعلامها وهتافاتها وولائها وتمويلها، ليست إلا ممثلية للنِظام السوري، تشبه بعثاته الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية!

كان المنتخب السوري في لحظته تلك يشغل مساحة بالغة التعقيد والتركيب بالنسبة لملايين السوريين. فهو بسلوكه الرمزي والخطابي جزء عضوي وتفصيلي لمن قتل وحطم ملايين السوريين هؤلاء، دمر مُدنهم وحياتهم ومستقبلهم، شردهم وأنكر وجودهم وحقوقهم البديهية، لكنه في الآن ذاته يُمثل شيئاً عميقاً بالنسبة لهم، ذواتهم وذاكرتهم وأطيافاً مركبة عن الانتماء والمعنى والوطن والمرجعية.

كانت حالة السوريين يُتماً مُكثفاً، فالأيتام ليسوا مُجرد أفراد عاديين فاقدين لأحد الوالدين، بقدر ما يكون اليُتم فقداً كثيفاً للأبوة بمعناها الأشمل. الأبوة التي تمنحهم الطمأنينة والثقة، تخلق ذاكرتهم وعالمهم الرمزي. يطور اليُتم عطش الأيتام مع تقدمهم بالعُمر، فيحنون ويتقبلون أي أبوة أخرى، غير أبوتهم البيولوجية، يمنحونها مشاعرهم وولائهم وحنين طفولتهم. لكنهم في الوقت ذاته، يحملون مشاعر الكراهية تجاهها، لأنها فعلياً لا تُبادلهم نفس المشاعر والروابط، فلا قبول ولا عواطف ولا اهتمام.

عادة تؤدي حالة عدم التوازن في العلاقة هذه، إلى واحدٍ من مصيرين تقليديين، إما الاهتراء أو القسوة. وهل من أحدٍ مثل السوريين يعيش هذا التركيب العجيب المكون من الاهتراء والقسوة.

حالة اللاعبين السوريين فراس الخطيب وعُمر السومة أوسع تعبيرٍ عن هذه العلاقة المُتداخلة. فالنجمان الكُرويان أتخذا موقفاً موالياً للثورة السورية، ورفضا الانضمام لمنتخب سورية، ثم عاشا فترة طويلة من التردد، تراجعت خلالها الثورة السورية، وتقدمت نتائج الفريق السوري. عاش اللاعبان صراعاً داخلياً بين نبذ عميق لما يمثله الفريق السوري سياسياً ورمزياً، وبين طموحهما الشخصي، ورغبتهما في تحقيق ما كانا يحلمان به مُنذ بداية احترافهما لكُرة القدم، وربما تحقيقاً لما يأمله الآخرون مُنهم. أخيراً اختارا موقعاً بالغ القلق: المُشاركة في المنتخب، دون ولاء وارتباط وجداني، وشيء غير قليل من التردد والخجل والخوف، تبني أبوة يعرفونها غير كاملة وغير صحية.

طوال عقودٍ كثيرة قبل هذه الحالة، كان الكورد السوريون يعيشون ما يحياه السوريون راهناً. كان المنتخب السوري بالنسبة للمُهتمين الكورد السوريين مثل باقي المؤسسات والرموز الوطنية، كان يُجسد نموذجاً للتناقضات الداخلية لعلاقة الكورد السوريين مع الرموز الوطنية. فالكورد في دواخلهم كانوا يرون الدولة السورية بمؤسساتها وسطوتها كقوة قهرٍ عامة عليهم، مرفوضة وجدانياً وسياسياً، لكنهم في الوقت نفسه يملكون تعاطفاً وانتماء للكثير من رموزها وعوالمها، وعلى رأسها الفرق الرياضية الوطنية. كان ذلك يجري للكثير من الأسباب، أولها أن الكورد السوريين لم يكونوا يمتلكون إلا هذه الرموز والعوالم الكُلية، ليعبروا ويخلقوا علاقتهم مع العالم والمُحيط.

توسعت هذه العلاقة من الكورد إلى نظرائهم من ملايين السورين الآخرين، ترافقاً وتناسباً مع تحطم الوطنية السورية، سياسياً ورمزياً. فما كان الكورد يعتبرونه مُجرد نظام سياسي قهري، يُحطم ذاتهم وحقهم بالحضور الرمزي، كان غيرهم من السوريين يعتبرونه وطناً ووطنية، وإن بالمكاذبة على الذات. بالتقادم، اكتشف السوريين ما اكتشفه الكورد من قبل، اكتشفوا كيف أن هذا الذي يعتقدونه وطناً، ليس إلا قناعاً لوحشٍ موضوعي وحقيقي يُسمى النِظام السوري، ابتلع هذا الوطن. وأن الرموز والمعاني التي تدعي الوطنية والتمثيل الرمزي، ليست إلا أدوات لهذا الوحش، ليحتل كُل شيء، وأولاً العوالم الرمزية والروحية والشرعية، وحتى لا يجد ملايينُ السوريين أي دربٍ لخلق ذواتهم الجمعية وعلاقتهم الطبيعية مع العالم، إلا بهِ وعبرهُ.

 رستم محمود

التاريخ: سبتمبر 03, 2017

التعليقات مغلقة.