المجلس الوطني الكوردي في سوريا

الدكتور محمود عباس : القيامة بعد الإستفتاء ..

54

كالمؤمن المتوجه نحو الكعبة، خطى الناس في جنوب كوردستان إلى صناديق الاقتراع، مع مشاركة معنوية عمت الأجزاء الأخرى. فظهرت وحدة وطنية، تجاوزت جميع الجغرافيات الحزبية التي تقسمهم، ولأول في تاريخ الكورد الحديث.
الاستفتاء حدث مصيري ليس فقط للأمة الكوردية، بل لمعظم شعوب المنطقة الطامحة لبناء حضاري بدون أنظمة شمولية، عقود والكل يحلم به، ففيها برزت لحظة جرأة الكورد بالوقوف في وجه السلطات الاستبدادية في المنطقة، وأنتبه العالم إلى أن الكورد اليوم شعب يملك قوة ستمكنهم يوما لقيادة المنطقة.
فمثلما سبق الاستفتاء سيتبعه يوم (القيامة) فما يجري على الساحة الإقليمية، من التحركات السياسية والعسكرية والدبلوماسية، تبين لنا وللعالم أن الدول الإقليمية خرجت من مرحلة الحشر الإلهي، وهي الأن في يوم القيامة، لأنهم لم يكن يتوقعون مثلها من الكورد، حيث الوحدة، ونهوض الشارع الكوردستاني، علما بأن عداوتهم للكورد وكوردستان ليس غريبا، والجاري كان متوقعا، ونعلم أن التصعيد سيكون مستمرا إلى فترة لربما غير قصيرة، فالأنظمة الناكرة للأخر، لن تستكين لشعب يطالبهم بحقه في تقرير مصيره، وسيفرض وجوده كقوة سياسية عسكرية بين أربع دول تحكمها سلطات استبدادية ستلهمها نيران التحرير عاجلا أم آجلاً.
بدأت مسيرة الصراع الحقيقي، داخليا وخارجيا، والاستفتاء لم يكن سوى الشرارة، ولا أظن بأنه ستكون هناك قوة لإطفائها بعد اليوم، وقد لا نستبعد بعض التباطء في فترات ما، لكنها لن تقف وستبلغ مداها.
1- أمريكا وروسيا، لهما رأيان، واحدة في الإعلام وأخرى في الأروقة الدبلوماسية. رأي في البعد السياسي وآخر مبني على مجريات الأحداث العسكرية في المنطقة، ومحاربة الإرهاب، داعش وما يشبهها، لذلك فهما، يطالبان بالوحدة، وعدم خلق حوادث تعكر مخططات الحرب المرسومة سابقاً، فقد يضطرون إلى إعادة النظر في استراتيجياتهم الجارية، وفي عمقها تعني بقاء القوى العسكرية المتواجدة في ساحات الحرب موحدة لمواجهة قوات داعش، أو بالأحرى عدم تغيير المخططات، والتي قد تظهر على خلفية النعرات العنصرية، كأن تقوم حكومة العراق والحشد الشعبي بترك حروبها مع داعش وتتجه إلى محاربة الكورد، فهم يعلمون بأن سلطات الدول الأربع المحتلة لكوردستان تفضل محاربة الكورد على منظمة إرهابية كداعش، ويعرفون بأنه كان لهم اليد الطولى في تكوينها، ودعمها، وتزويدها بكل أنواع الدعم اللوجستي. ولهذا فلا نستبعد في القريب العاجل، وبعد أن يطمئنان على أن مسيرة كوردستان لن تؤثر على حربهما والكورد على داعش، إن كان في جنوب أو جنوب غربي كوردستان، حينها سيعيدان النظر في رأيهما، وعلى الأغلب تصريحات مهمة ستصدر من كليهما، وستصبان في صالح قيام دولة كوردستان.
2- الدول الأوروبية، والتي بعضها كان سببا في التكوين الجيوسياسي للشرق الأوسط العجيب، وقد يأتي اليوم الذي سيقدمون فيها إلى محكمة دولية، فرغم كل بعدهم الثقافي الحضاري، يهمهم مصالحهم الاقتصادية قبل حق الشعوب في تقرير مصيرها، ومصالحها عميقة مع الأنظمة الإقليمية المحتلة أو الداعمة لها، ولن يكون من السهل تغيير هذه المعادلة، إلا في حال إقناعهم بأن القادم الكوردستاني يحمل نفس المواصفات الاقتصادية، مع تفضيل في قدوم حكومات قد تكون حضارية، وستحترم حقوق الشعوب في ذاتها وخارج جغرافيتها، ولا بد من إقناعهم بدعم إرادة الشعب الكوردي في إقامة كوردستانه، وبأنها ستكون محافظة على جميع القوانين والمواثيق الدولية في المنطقة، وخاصة التي تسهم في بناء مجتمع حضاري. وهي كذلك ستقتنع بما يجب أن تؤول إليه المنطقة من تقسيمات سياسية، وتوزيع المصالح بموازين جديدة.
3- الدول الإقليمية، والتي سترضخ لإرادة القوى الكبرى، أصحاب المصالح في المنطقة، وإلى تلك المرحلة، لا بد للكورد من التعامل معهم بالمرونة، وإقناع شعوبهم، بأن كوردستان القادمة هي عامل للتحضر والسلام في المنطقة، وخلق الاستقرار، وبظهورها ستقف مسيرة قرن من الصراع والحروب، والتي أدت إلى دمار الطرفين، ولم يكن فيها غالب ومغلوب، حتى ولو كانت الأنظمة المحتلة تبين لجماهيرها وللعالم بأنها كانت رابحة، وذلك بعد كل إخماد للثورات وبمجازر بشرية طالت كل الأطراف المتصارعة، وبدراسة بسيطة للتاريخ نرى أن الثورات الكوردية لم تقف يوماً، وكل واحدة كانت أشرس من سابقاتها، ومن المهم إقناع الشعوب المجاورة بإيقاف هذا الدم المراق بين الطرفين، والاحتكام إلى لغة العقل، وأن عناد سلطاتهم لا تصب في مصلحتهم، وأن الكورد اليوم قرروا وبالإجماع الاستقلال، وكل ما يقال في برلمانات دولهم أو في أروقتهم السياسية، لن يؤدي سوى إلى استمرار القلاقل في المنطقة، والعودة إلى الحروب والدمار، والمزيد من سفك دماء الأبرياء من الطرفين، ولا بد من الاقتناع بأن الشعوب تريد في النهاية السلام والعيش بكرامة.
4- الداخل الكوردستاني، ولربما هنا تكمن عقدة القضية، وتقف عليها نجاح أو فشل المسيرة، وعلينا أن نضع كل الاحتمالات على طاولة النقاش.
أولا: هل ستتمكن الحكومات الكوردستانية من تجديد ذاتها، وخلق سلطات حضارية وستجاري العالم الديمقراطي؟ والتي ستقف عليها الكثير، لربما حاضر ومستقبل الأمة، والبعد الجيوسياسي لكوردستان القادمة، وبالتالي مدى تسارع الاعترافات الدولية بها، وقبولها في الأروقة الدبلوماسية والأنظمة العالمية. أم أنها ستظل نسخة عن سلطات الدول الإقليمية، وبالتالي ستجر بذاتها وبالأمة إلى مستنقع لا يختلف عن الماضي، وستسهل للأعداء أحلامهم بتقويض مسيرة الشعب الكوردي.
ثانيا: لا شك العديد من القائمين على الاستفتاء هم من أو رواسب شريحة قيادية كانوا ثوريين، ويحاولون تجديد الماضي لكن بأساليب سلمية، وتمخضت بعملية الاستفتاء، وهم أدرى بدور الإرادة الكوردية في القيام بأغلبية الثورات، مقابل الظروف الدولية في خلق بعضها وإخماد معظمها، وخلق الصراعات الداخلية، فعليها وعلى حكومة الإقليم الكوردستاني الحالية والقادمة، أن تتبع نهجا كردستانيا، لكسب العامل الدولي إلى جانبها، وذلك بالعمل قدر المستطاع على تهدئة الصراعات الحزبية الداخلية، والحفاظ بكل الأساليب على الروح الذي ساد كوردستان أثناء عملية الاستفتاء، حيث الوحدة الوطنية، وعليهم تكريس جهودهم في الاتفاق على نقاط التقاطع بين الأطراف السياسية الكوردستانية.
ثالثا: على كل الأطراف الكوردية المتخالفة، الانتباه إلى أن القوى الإقليمية ستجد ملاذها في صراعاتنا الداخلية، وستدعم طرفا على حساب الأخر، مثلما كانت تفعله على مر التاريخ الماضي، لذا يجب العمل معا تناسي خلافاتنا لبناء الوطن، لأنها الحاضنة، للأمة قبل الأحزاب والسلطات، فالقوى السياسية ستتبدل والسلطات ستتغير، لكن الأوطان تبقى، ولا شك أن البعض يجد أن القوى الإقليمية لن تسمح بمثل هذا التقارب، ولن تتمكن الأحزاب الكوردستانية المهيمنة من تجاوز الإملاءات، لكن ونحن على قناعة أن الإرادة المشتركة لها القدرة على الحد من سيطرة المربعات الأمنية، وبدبلوماسية متفقة عليها ستزول معظم الصعوبات.

نحن اليوم نتعرض إلى كل أنواع الانتقادات من القوى الإقليمية، في إعلامهم، وضمن الأروقة الدبلوماسية العالمية، يستخدمون فيها كل الأساليب الحديثة، من منطق الحقوق الدولية، وبنود الدستور، والتجاوزات على الشراكة الوطنية، مع طرحهم لمفاهيم خبيثة، كمنطق صدام حسين يوم كان يدعي بأنه يحمي الكرد من الكورد، ليخلق العداوة بين الشعب الكوردي، ولا شك أدت في حالات كثيره إلى تأجيج الصراع الداخلي، كما وأن بعض إعلامهم، ينقر على تشبيه استقلال كردستان بمسيرة جنوب السودان، ولهذا فأول ما سيقدمون عليه هو تحريض البعض الكوردي على البعض، ودعم أحزاب ومحاربة الأخرين، وبالتالي سيحاولون بكل قدراتهم خلق صراع داخلي، لتصبح كوردستان القادمة دولة مشابهة لدولهم أو لجنوب السودان.
ونحن هنا لن نتحدث عن محاولات استخدام العامل الاقتصادي، كالحصار، وإغلاق بوابات الحدود، وقطع العلاقات التجارية، وحظر الطيران المدني مثلما طالبت بها حكومة بغداد من العالم، إلى جانب القيام بمناورات عسكرية مشتركة، على حدود كوردستان المجاورة لتركيا وإيران، تحت الصفة الرسمية للسلطة المركزية، ولا ننسى منطق الأغلبية في البرلمان، وغيرها من الأساليب وخطط محاربة كوردستان، وجميعها على الأغلب ستفشل إذا كانت القوى الكوردستانية متفقة، وقامت بتأجيل خلافاتها إلى حين.

المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر الموقع

التعليقات مغلقة.