المجلس الوطني الكوردي في سوريا

محمود عباس : كوردستان يتيمة الإمبراطورية العثمانية..

62

بدأت القضية الكوردستانية تظهر بكل أزماتها مع انهيار الإمبراطورية العثمانية، وتعقدت كدولة قومية، مع مجيء السلطات المستعمرة، ومحاولاتهم مساندة الشعوب التي كانت قابعة تحت نيرها، ومن ضمنهم الكورد. فتبدلت معها وجوه الصراع، وخلفياته، كما وتوضحت ضحالة المعرفة الكوردية في السياسة والعلاقات الدبلوماسية، وإدارة الدولة، وتبينت التناقضات الرهيبة ما بين الانتماءين الديني والقومي، وطغيان الأولى والتي كانت سببا في اصطدامات عديدة مع الدول الاستعمارية الحديثة، فرنسا وبريطانيا، مستندين على ركيزتهم الإسلامية والمفاهيم المترسخة من مرحلة الاستعمار الفكري الديني، حيث الخلافة العثمانية، والمؤدية إلى اعتبار طرح الغرب في نهاية العشرينات من القرن الماضي حول تشكيل الكيان الكوردستاني شبح يرهب الأغلبية، الوعي الذي لم يتطور عند الكورد بالحجم المطلوب، ولعدة أسباب، والأهم منها هي الدول المقتسمة لكوردستان.

رغم الثورات القومية-الدينية المتتالية، والتي كانت تقمع بوحشية على خلفية الإخوة الدينية والانتماء إلى العالم الإسلامي، ظلت النزعة القومية الكوردية أسيرة ضحالة معرفة التصرف بالعامل الديني على مدى عقود طويلة، وهشة أمام النزعة القومية المتصاعدة عند الشعوب الأخرى العربية والفارسية والتركية ورثة الخلافة العثمانية الإسلامية.

التشدد الكوردي الإسلامي أو لنقل عدم معرفتهم الدمج بين القومي والديني، خلق بينهم وبين الدول الغربية الكافرة بعدا لم يحمد عقباه، الذين حاولوا أحياء اللغة الكوردية في مناطق كوردستانية عدة، شبه المقضية عليها، كتابة وقراءة، خلال القرون التي سيطرت فيها السلطات الإسلامية منذ بدايات الغزو العربي الإسلامي إلى نهاية الخلافة العثمانية، وما كتبت بالكوردية كانت بحروف القرآن، ومن تعليم التكيات الإسلامية، مرتكزة على لغة الشارع والعائلة الكوردية، والتي ظلت محافظة على رونقها وأصالتها رغم عاديات الزمن وجور السلطات.

وقد جوبهت محاولات المستعمر تلك بممانعة عفوية، في بعض المناطق الكوردستانية، وخاصة البهدينانية التي فضلت التدريس باللغة العربية على الكوردية، بعكس السورانية التي تقبلت العملية، وعلى أثرها وفي أقل من عقد من الزمن تطورت فيها الآداب واللغة والترجمة إلى الكوردية إلى حد ما، مستندين على الحروف العربية أي حروف القرآن تماشيا مع الدين، وعلى أثرها، أثر الممانعة، وإلى جانب عوامل موضوعية تتعلق بمصالحهم، ساعدت فرنسا وبريطانيا على نمو السلطة الفكرية العروبية، تحت غطاء الوطنية، وسيادة التركية المتشكلة على البقية الباقية من الإمبراطورية، والرافضة بالمطلق الاعتراف بأية قومية أخرى ضمن الجغرافية المتشكلة حديثا، وكذلك الفكر والثقافة الفارسية المختفية تحت غطاء الشعوب الإيرانية. كما وساهمت في تدريس الشعوب باللغة العربية ضمن الولايات العثمانية الأخرى، ومهدت لها عن طريق إعادة إحياء تسييد لغة الإسلام كلغة للسلطات، وبترحاب من معظمهم وبينهم الكورد، وتفضيلها على لغات الشعوب الأخرى التابعة للإمبراطورية المنهارة، ومنها الكوردية والأمازيغية والقبطية والأشورية والأرامية والسريانية وغيرها.

أتبعت بريطانيا وفرنسا، مع تكريس اللغة العربية، سياسة الدعم المباشر للسلطات العربية، والتي أصبحت فيما بعد سلطات محتلة للشعوب ومن ضمنها لجغرافية كوردستان الجنوبية والجنوبية الغربية، بغياب الكورد قوميا في مجمل جغرافية كوردستان، رغم بعض الثورات، وتشتت الشريحة الواعية بمقياس المجتمع الكوردي آنذاك، والمدركة نسبيا لمجريات الأحداث، رغم الكتلة الديمغرافية الكوردية الهائلة والجغرافية الكوردستانية الواسعة، مقارنة بجميع الشعوب المجاورة التي بدأت تخطط لبناء دولها القومية، وقبل أن تطال الكورد التعريب والتتريك والفرسنة، وتصاب بمآسي التهجير والهجرة، ويتم تقليص جغرافية كوردستان وعلى مراحل متتالية، وحينها اعترفت الدولتين الكبيرتين بالدول الوليدة، وبحكوماتها العنصرية والتي عدت مواجهتها كفرا بسيادة لغة القرآن، والسلطات الإسلامية، أو الوطنية كإيران وتركيا، والأدلجة هذه هي ذاتها التي كان السلاطين العثمانيين والفرس، يروجونها على مدى أربعة قرون ونيف، حيث قدسية الخلافة الإسلامية، فكرسوا الشر، وشر من يواجهها، أو ما يمكن أن نسميها سلطات الشر، ووسمت الثورات الكوردية، أو طموح بعض الأمراء باستقلالية ما، بالكفر أو الخيانة الوطنية.

تمخضت سلطات عنصرية عن هذه التحولات فيما بعد، كالسلطة  التركية الكمالية، والفارسية قبل انقلاب محمد مصدق عام 1953م وبعده، وتحولت بعض الولايات العثمانية بالتدرج من متحدثة بلغة القرآن-العربية، إلى أنظمة عروبية، علماً أن السلاطين العثمانيين وولاتهم، كانوا يفصلون بشكل جلي بين العرب حيث شبه الجزيرة العربية والولايات الأخرى والتي تسمى اليوم جدلاً بالدول العربية، كالولايات الكوردستانية أو ولايات شمال إفريقيا الأمازيغية أو القبطية والنوبية، أو الشرقية كالسريانية والمارونية وغيرها، والتي كانت لها خصوصياتها القومية واللغوية وجلها لم تكن لها انتماء عربي، ولا الشعور العروبي، وهنا لا نتحدث عن الفكر الإسلامي والأمة الإسلامية وشعور الانتماء إلى السلطات الإسلامية، حيث سيادة لغة القرآن، والمتحولة معظمها بشعوبها فيما بعد وعلى مراحل إلى العربية، باستثناء الكورد، وقليل من الأمازيغ والقبط، خاصة بعد ظهور الموجة العروبية التي تنامت مع نهايات الاستعمار بتحريض من شريحة مستعربه، والتي لم ترى مواجهة من الشعب الكوردي ولا من الشعوب الأخرى.

فخلقت الموجة إشكاليات بين شعوب المنطقة المعربة أو المستعربة أو المحافظة على خصوصياتها القومية عفويا كالكورد، وكذلك خلافات وصراعات بين شعوب وأنظمة الدول المسماة جدلا بالعربية، الثقافة التي لم تكن لها بيئة بين الدول العربية الأصيلة، مع استثناءات ظهرت على خلفية المصالح والعلاقات الدولية، وهذه ليست مبنية على منهجية ثقافية -سياسية النابعة منها مفهوم العروبة، والتي خلقتها شريحة انتهازية منافقة من أبناء الشعوب التي لم تكن لها خلفية عربية. تنامت مثل هذه العنصرية وبمنهجية أكثر وضوحا في تركيا الكمالية، إلى أن رسختها في الدستور ببند يعرف تركيا بقومية ولغة واحدة وعلم واحد، وهي التركية الحديثة المبنية على حطام الثقافة العثمانية، وكذلك إيران الفارسية، المستمدة مفاهيمها ومنهاجيتها القومية من السلطة السامانية الغابرة والصفوية ببعدها القومي قبل المذهبي، وفي الجغرافيتين، كان الشعب الكوردي بدون حراك سياسي-ثقافي، وما كان موجودا لم يكن يرقى إلى سوية منع التعتيم المطلق على الشعب الكوردي وطمس أسم كوردستان، والتي كانت لها ذكر حتى قبل العقد الأخير من الإمبراطورية العثمانية، وفي الواقع كانت كوردستان لا تزال تعيش الظلمات السياسية والقومية في الوقت الذي كان الأخرون يقسمون جغرافيتهم، ويشكلون دول قومية.

أصبحت كوردستان يتيمة، بغياب حراك كوردستاني من جهة ، ودعم الدول الاستعمارية في العقود الأخيرة من وجودها، الحكومات العربية، والتركية والفارسية، من جهة أخرى، وتغاضيها عن تقسيم الجغرافية الكوردستانية المحتلة، وعدم المبالاة في الحظر على اللغة الكوردية في تركيا وإيران، والتركيز على تدريس اللغة العربية في المناطق الكوردية وفتح المدارس، بعد أن واجهوا الرفض المباشر وغير المباشر من قسم واسع من ممثلي الشعب الكوردي على تقديم نفس الخدمات باللغة الكوردية، وهو ما أدى إلى الإهمال المتعمد فيما بعد بحق الأمة الكوردية سياسيا وثقافيا، ويحضرنا هنا حديث للوالد كيف أن المدارس في نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات، التي فتحت في منطقتنا الآشيتية شرقي قامشلو ومنها التي كانت في تربه سبيه تدرس اللغة الكوردية فيها بحصتين إلى جانب العربية، وربما لضعف الشعور القومي مقابل الإسلامي وحيث لغة القرآن، لم تلاقي الدعم المناسب من الشعب، فتمت بعدها تقليص الكوردية على حساب سيادة العربية، وكان الوالد يقرأ بالكوردية. ونحن نعلم كيف أنه مع تنامي قوة السلطات العروبية، منذ بداية الخمسينيات في سوريا على الأقل، ليس فقط ألغيت الكوردية والتدريس بها كليا، بل وبعد عقود منها أصبحنا كأجيال لاحقة أبناء من كانوا يدرسون بالكوردية نعاقب لمجرد التحدث بالكوردية في باحات المدارس.

عمليا، الاجتياح العروبي التركي الفارسي، لكوردستان أسندت من قبل الاستعمار، تحت غطاء السلطة الإسلامية، وفيما بعد الوطنية، وجعلتها يتيمة الإمبراطورية العثمانية، في الشرق، مثلما الأمازيغية يتيمتها في شمال أفريقيا، المنطقتين المتحولتين إلى ما سميت لاحقا بالوطن العربي، أو الإيراني، والتركي، وتمت وعلى مراحل إنكار حقوق الأمة الكوردية، والشعوب الأخرى المحتلة، وحظرت لغاتهم، منها على خلفية لغة القرآن، ومنها بعنصرية واضحة كالتركية والفارسية، علما أن اللغة العربية ذاتها كانت كلغة الدين منتشرة بين الفرس والباكستانيين والأفغان وغيرهم، وتم حصرها بتطوير لغاتهم القومية عن طريق المدارس، وطمس الكوردية بالمقابل بمنع تعليمها وتدريسها، وهي العملية التي طبقها الفرنسيون في الجزائر، والتي لا تزال تعاني الكثير من الإشكاليات رغم مرور عقود على تحريرها، وتكريس الدولة نسبة ضخمة من ميزانيتها لإحياء اللغة العربية دون الأمازيغية وبعنصرية واضحة، واستقطاب المدرسين من كل الدول العربية، وخاصة مدرسي اللغة العربية، وهذه توضح أن المدارس والتدريس لها الدور الرئيس في تطوير وإحياء أية لغة مهما كانت سويتها أو أضعافها، وتكريس السلطات، وتوعية الشعوب قوميا، وهو ما عان منه الكورد والأمازيغ والقبط والسريان وغيرهم، ويحضرني هنا مقالة للكاتب الأمازيغي (محمد بودهان) المنشورة في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 26/6/2018م تحت عنوان (لماذا لا أكتب بالأمازيغية ويكتب السيد حميش بالعربية؟) الذي يرد فيها على الكاتب حول أصالة ومتانة اللغة الأمازيغية ودور التدريس في تطوير اللغة.

رغم كل ما تم ذكره، لا نستبعد أن نهضة ثقافية-سياسية ستتنامى بين الكورد والأمازيغ، وستنحسر مفاهيم العروبة والتتريك والفرسنة، وستتنامى العلاقات الإنسانية بين شعوب جغرافية كوردستان والأمازيغيا على مبادئ حضارية، وعلى الأغلب الكورد سيملكون مفتاح السلام في المنطقة.

 

المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر الموقع

التعليقات مغلقة.