المجلس الوطني الكوردي في سوريا

وليد حاج عبدالقادر: وفي عامودا كان نزال آخر..

68

– حيدرو ؟! إلزم حدك ؟! .. إياك وتجاوز هذا الجسر ؟! .. إنها لي .. لا لا ليست لك .. لي .. ليست لك ؟! .. والتمعت الخناجر ملولحة في الأفق تناطح الإثنان على طريقتهما .. صراع دونكيشوتي مضحك / مرهق في سيرك بدا أشبه ما يكون كصراع الديكة و .. من دون سابق إنذار أنهى حيدرو المبارزة وهو يقول : اسماعيلو؟ ! … أتشم شيئا ؟! .. ما هذا بربك ؟! .. أنت فعلا مجنون حيدرو !! .. قالها إسماعيل .. أنها رائحة لحم مشوي .. نار هو ودخان و .. حركة غير اعتيادية دبت في شوارع وأزقة عامودا… صرخات وأصوات هستيرية .. أنها السينما .. أنها السينما … هيا يا ناس .. هيا يا عالم .. إلى الأطفال .. أنها السينما التي تحترق وملؤها أطفالنا الأبرياء … تناسى اسماعيلي دين وحيدرو خلافهما على الحدود المصطنعة .. الى السينما هيا قالها اسماعيلي دين … ربااه !! .. ياالشعاع المتوهج نارا ولفحاته تعانق فضاءاتك عامودا وطوق رجالات امنك بشرطتها يحوطون المكان تمنع المذعورين بجنون على اطفالهم … ! .. حيدرو .. حيدرو .. ؟ .. ! .. لماذا يمنعون الناس من محاولة إنقاذ المحاصرين بالداخل ؟! .. لا أدري ؟ أجاب حيدرو .، هات خنجرك .. هات ! .، تتمرجل بها فقط علي قالها اسماعيلي دين ! واين خنجرك ؟ سأله حيدرو ! .، أيها المجنون : أقسمت ألا يجرح خنجري إنسانا ، فقط أعيره في بعض من الأحيان الى حجي يحيى ليذبح به الدواجن …
أصوات استغاثات … عويل فظيع تتقطع لها الأبدان .. أزيز .. صفير .. صعيق. . جقجقة المحترق المتصدع تتعالى .. تمازجت الأصوات والروائح والألوان .. المشاعر باتت منفلتة فلتان هذا النار الفتاك !! .. وفوق كل هذا : رائحة اللحم الطفولي وهو يحترق .. و .. رجال الشرطة تمنع الناس حتى من مجرد التفكير في إنقاذ المحاصرين .. !! .. تململ الجمع المحتشد و .. فسحوا الطريق .. بدا أن أمرا ما حدث أو .. سيحدث .. لحظة بدت وكأن الكبرياء البشري قد فقد ذاته وسط ذلك الطوق الأمني غير المبرر ! .. انتبه الأمن إلى تلك الحركة .، تقدمت مجموعة منهم .. حاولت منع القادم من التوجه صوب السينما المتقدة فأشعر مسدسه وأقسم بقبر أبيه بأن الذي سيمنعه سيلقى حتفه .. تراجع الجميع فهم يعرفون من هو – محمد سعيد آغا الدقوري – .
دخل السينما .. أنها تلتهب .، طفولة بريئة تاهت وسط هيجان نار لا يرحم .. و .. دخان يعمي البصر ، انتشل طفلا بيمناه وآخر بيسراه وانطلق مسرعا .، ذهاب بإياب وإياك بذهاب والنيران تشتد اتقادا وهو يزداد إصرارا .. الردهة الأولى خلت .. توجه صوب الردهة الثانية. . رائحة الشواء الآدمي تزكم الأنوف والنيران قد هشمت الأسقف التي بدأت تتداعى وقاربت من الأنهيار .. أصر على الإستمرار .. سكة حديد ملعونة أضحت ككتلة جمر متقدة تتدلى .. لعنة الله على الحديد وسككها .. قالها الدقوري .. لقد فعلت فعلك قبلا ؟ أولم تقسمي أرضي الى قسمين كما هي قريتي الى اثنتين ؟! .. تناول طفلين آخرين وطفلة صغير بضفائرها الجميلة تحك عينيها بيديها كانت مالبثت ان تمسكت برقبته .. هرع بهم خارجا .. الوهج يزداد والدخان يقطع النفس والعيون كواها الاحتقان فبدا المكان اشبه بحفرة مظلمة .. صمم على التحدي .. اجتاز الباب .. ما اسمك أيتها الصغيرة ؟ .. نسرين .. أجابت الطفلة .. إلى بيتك أيتها الحلوة نسرين ..
عاد مسرعا إلى الداخل .. أحس بإرهاق شديد .. تعب لم يألفه قط .. انعدام رؤية .. غثيان .، سائل أخذ يتدفق من رأسه لا يميزه ! أدم هو أم عرق ؟ … بصعوبة فائقة وصل إلى الردهة الثانية مجددا .. انتزع طفلين آخرين وهم بالخروج إلا أنها سكة الحديد المتجمرة أبت إلا أن تتدلى أكثر .. النار توهج .. تعالت ألسنته وامتزجت بدخان أسود كثيف وأضحت كدوامات – بابله سيسك – ممتزجة بدخان أسود كثيف تتشابك كحلقات حلزونية قاتلة .. ما أبشعك أيتها النيران ! .. إزحفي .. هلمي إلي … دعي الطفولة لبرائتها ؟؟ ..
اصطدم رأسه بالسكة المتدلية بقوة .. لابأس .. لابأس .، قذف الطفلين صوب الباب .. هيا أنجوا بنفسيكما ، هاهو الباب على مبعدة امتار .. حاول الرجوع من جديد .. لم يطاوعه قلبه … انتزع الطفلين من جديد وأصولهما الى بر الأمان .. رجع مسرعا ورغم شدة النار وقوته والرؤيا شبه المعدومة والأفكار التي تتواتر إلى ذهنه كسرعة البرق .. عجبا ! ! … لم لا أرى شيئا ؟ .. لا أميز أية صورة ؟! .. سوى صرخات البراءة واستغاثتها .. يا لبؤسك أيتها الحكومة ! .. صامتة أنت والبراءة تحترق هنا .. رجالك يحرسون النار ويمنعون المساعدة !! .. أم لعلها ( حتى تكتمل الوليمة ) * .. ربما !! .. قالها في نفسه .، مد يده لتنقذ طفلا آخرا .، الله .. ياألله؟ ! .. يد طفولية بدت كغصن شجرة محروقة وقد انتزعت من جزعها. . هل فزعت أيها الدقوري ؟! .. لا لا .. ولكن ! أي قلب آدمي يستطيع ان يتحمل هكذا مشهد ؟! يا اللحظة البائسة في عمر البشرية .. هلمي .. تعالي .. جميلة بوحيرد .. بن بيلا .. حسن آية .، وانت بومدين !! .. أيها الجزائريون ؟ : انظروا !! ها هي البراءة الكوردية تحترق .. نعم … هم قدموا الليلة فرحين على امل أن يشهدوا عرسا جزائريا حقيقيا .. آه منك انت فرنسا الإستعمارية ! .. لقد اختبرناك قبلهم كما اختبرتيننا انت قبلا في – طواشا عامودي – حينها و .. لم نحزن ابدا كما الآن لأننا كنا حينها رجال نواجه رجالا و .. مع هذا : هم أعوانك بالأمس سادة اليوم ونحن لم نزل وقود نار وكأني بها اشتعلت لتوها ..
في لحظة تداخلت فيها كل مشاعر الغضب .، النار يزداد هيجانا وتعددت ألوانه وحلقاته وأضحت كلوحة ل – فؤاد كمو – ** وقد تداخلت ألوانها بسريالية حزينة .. سوادها بصغارها ، برتقالها باحمرارها .. أسرع الدقوري لعله ينقذ آخرين وفي انحنائته الأخيرة اختلطت عليه الاتجاهات وتاه منه النظر وتوا بدأ يتحسس رائحة الدخان الحاد والقاتل و .. رائحة اللحم البشري المحترق ، لمح بصيصا يقوده الى النجاة بنفسه .. ألا بئس الرجل انت محمد سعيد آغا الدقوري ! أتفكر بخلاصك الشخصي .، لا والله ؟! لن أخرجن وطفل واحد حي هنا ؟ .. وكبوصلة أخذ اتحاه الأصوات المرعوبة .. المتألمة .. المستغيثة .. صدم رأسه بعتف .. أحس وكأن أحدهم قد ضربه بقوة على رأسه ” أيتجرأ أحدهم أن يتطاول علي ” .. أبى الإنحناء .. قاوم السقوط .. صوت انهيار قوي متتال .، ماهذه اللسعة الحارة !! .. أبرق هو قد ضرب المكان ؟ . .. لا بل .. لعله الطيران الفرنسي وقد عاود القصف مجددا .. امتزاج السائل المنهمر من جسده مع الدم والجلد المحترق .. الله .. ! .. أحس أنه سينهار. ، مد قدمه اليمنى نحو الداخل … ( هلم ) خاطب نفسه .. لعلي أنقذ اثنين آخرين .. إلا أنها السكة المشؤومة ! يبدو أنها أصرت أن تحطم رأسا تصدى بانفة وأبى الانحناء فانهارت مع توابعها لتغطي الجسد .. الله ! ما هذا ؟ .. أزلزال هد ما حولنا ؟ .. اختلط الجسد مع الحديد المذاهب والرماد الأسود المتفحم …
حيدرو ؟ .. حيدروا !! .. هل أحصيت عدد الأطفال الذين انقذهم الدقوري ؟ .. نعم نعم اسماعيلو ! .. لقد احصيتهم : عشر مرات ستة وأربع مرات أربعة وثلاثة .. قاطعه اسماعيلو : وكيف ذلك حيدرو ؟ .. والله أنك مجنون .. انا مجنون ؟ .. نعم ! .. لا والله أنت .. لا أنت و … بدأت المبارزة من جديد …
إمرأة تولول وتصرخ !! أولادي .. أطفالي .. و .. آخر يروح ويجيء .. لي ثلاثة أطفال في الداخل .. اللهم الرأفة ربي ! .. وآخر يتكلم بهستيريا مبهمة .. و .. ها هما حيدرو واسماعيلي دين يتناطحان .. حقا أنك ما لمجنونين ! … ألا يكفي الناس ما هم عليه ؟! .. آه – كوزي من .. كوزي من – جوزي .. جوزي .. لقد نسيت الجوز مفروش على الرصيف .. هيا حيدرو .. هيا ! … قبل أن يتلقفها أطفال عامودا ! .. وهل بقيت في عامودا طفولة اسماعيلو ؟! .. نعم صدقت وحق الله أفرغت عامودا من زهورها وأية حياة ستكون هي من دون أطفالك عامودا الحزينة ! .. سيقولون قضى ثلاثة أطفال في السينما ولكن : ما أن تسمع منهم كذلك عليك أن تعلم بأن هناك مجزرة للكورد قد حدثت .. قالوا الجزائر قالوا ؟! وماذا ستفيدنا الجزائر أو أفادتنا قبل غيرها
….،
* عبارة تكتمل الوليمة مقتبسة من الشاعر الراحل محمود درويش
** الفنان التشكيلي فؤاد كمو وهو أحد الناجين من تلك المحرقة
ملاحظة : هذه الخاطرة تلقيتها في استذكار للمحرقة رعاها الصحفي الكوردي عبدالله حسين وحضره حينها الملحق الثقافي للسفارة الجزائرية وعدد من الجزائريين ولطيف من الكتاب والشعراء الكورد والعرب وذلك في مدينة الشارقة …

التعليقات مغلقة.