المجلس الوطني الكوردي في سوريا

مصداقية الباحث العربي محمد جمال باروت مثالاً الجزء “السادس والثلاثون”..

137

قراءة في كتابه: التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية. 

التكرار والتناقضات:
استمرارا لتوضيح قضية الديمغرافية الكوردية في جنوب غربي كوردستان، وتحديدا في محافظة الحسكة، والمحتلة جزء واسع من الكتاب، فإلى جانب فبركته للأرقام والنسب السكانية والتي تناولناها في الحلقة السابقة، كان لا بد من الانتباه إلى المصادر المستندة عليها الكاتب، والمراجع المستسقاة منها إحصائياته، ومعرفة مدى مصداقيتها، والتناقضات الواضحة ما بين المقدمة والمتن، وخاصة في مجالي التاريخ والديمغرافية الإثنية، ولا شك كانت فطنة من الكاتب أو من ساعد على التقديم للكتاب، عرض جغرافية الجزيرة الكوردستانية بمفهوم مغاير للصور النمطية المترسخة في لا شعور المثقف العربي، لجذب انتباه القارئ الكوردي على أن الكاتب منصف منذ البداية، وإثارة مشاعر القارئ العروبي،، ففي المقدمة الصفحة (24) يوضح عملية تقسيم الجزيرة، بين كل من تركيا والعراق وسوريا، فيقول ” إثر تكريس الحدود، الاستعمارية، الدولتية بين كل من سوريا، الانتدابية، وتركيا وبريطانيا بموجب معاهدة لوزان (1923) التي أنهت الدولة العثمانية قانونيّا، ونقلت المنطقة من النظام الإمبراطوري السابق إلى نظام، الدول، المستقلة الخاضعة للانتداب، آل القسم الأكبر من الجزيرة العُليا إلى تركيا، والقسم الأكبر من الجزيرة السفُلى إلى العراق، في حين آلت الجزيرة الوسطى إلى سورية” وهنا نرى دراسة لجغرافية كانت متكاملة وواحدة قبل نشوء سوريا والعراق الحاليتين، وظل القسم الأول والثاني محافظين على ديمغرافيتهما الكوردية شبه المطلقة رغم محاولات التعريب والتتريك لكنهم نادرا ما يتعرضون لكوردستانيتهما، والثالثة والتي هي جل موضوع الكتاب، والتي تتالت عليها عمليات التعريب المستمر، مع فبركة تاريخها، لتتماشى ومحاولات إزالة كوردستانيتها في المتن، ويبدأها بشكل مكثف من الفصل الثالث، وفي الفصل الرابع يكثف التركيز عليها، ففيها يزيل الغطاء عن أحد أهم غايات الكتاب، بعرض الجزيرة السورية كمنطقة شبه خالية من السكان الكورد قبل عملية التقسيم، فيتحدث ويحلل وكأن الحدود كانت حاضرة في ذاكرة الكورد قبل وجودها، وأنهم لم يكن يقطنون جنوبها! ويسمي التنقلات القبلية الكوردية على خلفيات مجريات الأحداث على أنها كانت هجرات على طرفي الخط السياسي الوهمي، فأحيانا يصفها بداخلية وأخرى بخارجية، حسب الغاية، إلى أن تمادى بمصطلحاته في الفصل الرابع مقسما الكورد إلى (أكراد الدواخل) و (أكراد الأطراف) وفي كل الحالات يتناسى في المتن ما قدمه في المقدمة، حيث التكامل الجغرافي للمنطقة الكوردستانية قبل العشرينات من القرن الماضي.
والغريب أن العديد من المثقفين العروبيين، بينهم مجموعة من البعثيين السوريين بعضهم أبناء المنطقة، أي أبناء العشائر التي قدمت إلى الجزيرة بعد الهجرة من مناطق الحائل، تأثروا بهذا الفبركة التاريخية لديمغرافية وجغرافية جنوب غربي كوردستان، إلى أن بدأ البعض، بمحاولة خلق حوار مع المثقفين الكورد حول الأغلبية الكوردية أو العربية في الجزيرة السورية، ليجعلوا طرق استقطاعها من أصلها الكوردستاني فرضية يجب وضع حل لها، ويريدون إقناع الأخرين بحلولهم، متناسين أن إثارة قضية الجزيرة بحد ذاتها دلالة على كوردستانيتها وشكوكهم بما هم قادمون عليه، فلماذا لا يبحثون عن عروبة منطقة حائل ويركزون على الجزيرة؟ أليست لأن عروبة الأولى مفروغة منها، والثانية هم بذاتهم لا يصدقون إدعاتهم. ويعلمون تاريخ قدومهم إلى كوردستان، وتفاصيل هجرات القبائل العربية الحديثة العهد كـ (العكيدات بأفخاذها، والزور، والشمر، والطي، والجبور، وغيرهم) إلى المنطقة والتي بدأت بعد أن أجلاهم أل السعود من شمال شبه الجزيرة العربية في بداية القرن الماضي، ومع تشكيل المملكة العربية السعودية، وعلى خلفية أحداث الحائل، لذلك لا سبيل لهم على سلبها روحيا، وبعدا تاريخيا رغم التحريفات، ورغم السيطرة العسكرية والسياسية. وتاريخهم في المنطقة معروفة، فعلى سبيل المثال، المناوشات التي جرت بين عشيرتي العكيدات والجبور على مناطق الكلأ في منتصف القرن الثامن عشر كانت في جنوب منطقة الميادين، أي جنوب الفرات الأوسط، وهي الجغرافية الممتدة ما بين حائل والفرات الأوسط، ولم يتجاوز أي من هذه العشائر مجرى نهر الفرات شمالا، وظل كمانع طبيعي، لم يستطيعوا تجاوزه بقطعانهم أنذاك، وهم قبائل بدوية، إلى بداية القرن التاسع عشر عندما وفرت لهم السلطات العثمانية وفيما بعد الفرنسية وسائل الانتقال.
جميع دراسات هؤلاء الكتاب، المعروضة حول ديمغرافية الجزيرة، وبينها المسنودة على كتاب (ماكس فون أوبنهايم) أو (وصفي زكريا) أو (روبين بوغوصيان) أو (إسكندر داود) أو (كريستيان فيلو) وغيرهم، كمصادر إلى جانب دراسات المربعات الأمنية والمكلفة بكتابتها بعض كتاب البلاط، إلى جانب الجرائد الرسمية لتلك المرحلة والتي أخذت حيزا واسعاً من اهتمامات الكاتب محمد جمال باروت، وكانت تعكس سياسية السلطات العروبية حينها، مثلها مثل جريدتي البعث والثورة، مع ذلك كل هذه المصادر لا تستطيع تثبيت وجود هذه القبائل في شمال الفرات الأوسط قبل بداية القرن التاسع عشر، وسكنهم كحضر قبل بداية الثلاثينات، وذلك استنادا على ما يذكره الكاتب نفسه في الصفحة (25) ضمن مقدمته مناقضا مضمون الكتاب، عندما يتحدث عن المشروع العثماني بمحاولة توطين العشائر القادمة من شمال شبه الجزيرة العربية، وكنا قد نوهنا إليها في الحلقات الأولى، فيقول “وفي حين أخفق البرنامج الأول فإن البرنامج الثاني حقق نجاحاً نسبياً ملموساً في وادي الفرات، لكن نصيبه في منطقة الخابور أو منطقة الجزيرة السورية الحديثة (الحسكة ) كان محدوداً بتكون بعض القرى والبؤر نصف الحضرية التي تعتمد نمط الإنتاج الزراعي – الرعوي” كما وأن جميع الخرائط العثمانية والفرنسية والمستخدمة من قبل المثقفين العروبيين ذاتهم تثبت هذه الحقيقة، فأحدث خريطة هي المنشورة في عام 1907م لسنجق دير الزور، تبين أن أبعد منطقة بلغتها عشيرة عربية وهي الطي في المنطقة الجنوبية للجزيرة كانت منطقة الرد، جنوب مصب نهر الجغجق. ولا نستبعد أن هذه الثلة من الكتاب أصبحوا يصدقون ما تم ترسيخه في ذاكرتهم منذ الصغر من قبل السلطات الشمولية العروبية حول الديمغرافية العربية في الجزيرة، وعلى أثرها يركزون على عرض دراسات تاريخية غارقة في الفبركة والتحريف، يحاولون إقناع ذاتهم قبل الأخرين، متناسين دور السلطات العروبية الشمولية والمستغلة عاملي الدين ولغة القرآن العربية وتسخيرها في عمليات تعريب شعوب المنطقة وإحلال القبائل العربية مكانهم، وعمليات تحضيرهم مقابل تهجير الكورد.
وفي الواقع أن التنقلات على طرفي الحدود السياسية المتشكلة في بداية العشرينات من القرن الماضي، ما بين سورية الفرنسية وتركيا الكمالية، لم تكن هجرات، ولا يمكن تصنيفها تحت مصطلح الهجرة، لا داخلية ولا خارجية، بل هو انتقال من جغرافية كوردستانية إلى أخرى توفرت فيها عاملي الأمان، والاستقرار السياسي والاقتصادي، حيث عشائرهم، أو عائلاتهم المستقرة في مراكز حضرية لها عمق تاريخي، وهي القسم الجنوبي لغربي لكوردستان، وفي فترة لم تكن القبائل العربية المهاجرة من شمال شبه الجزيرة العربية إلى المنطقة قد بلغت مرحلة التنافس الديمغرافي على أراضيهم، والسلطات السورية الداعمة لهم لاحقاً كانت لا تزال في طور التكوين، وظلت كذلك إلى أن تقوت السلطات السورية العربية في بداية الثلاثينات، وهي بدايات مرحلة الاستيطان ومنافسة القبائل العربية للكورد أصحاب الأرض.
ولتسكين القبائل العربية الرحل، بدأت السلطات السورية بخلق إشكالية حول الديمغرافية الكوردية في الجزيرة، وخرجت بمصطلح الهجرة، وعرضها كقضايا سياسية بين تركيا وسوريا، تغاضت عنها فرنسا كرد على الطموحات الكمالية في الجزيرة العليا ومنطقة عفرين الكوردية المجاورة لإسكندرونه، وحاولت تشكيل إدارة ذاتية مسيحية- كوردية في شمال محافظة الحسكة الحالية، وترك بقية مناطق الجزيرة الكوردستانية للقبائل العربية الرحل، دون الاهتمام بالوجود الكوردي في منطقتي كوباني وعفرين، لترضية السلطات العربية، وعدم إثارة الخلافات مع الدولة الكمالية بعد اتفاقيتي أنقرة 1 و 2.
فما حدث من تنقلات اضطرارية على مر التاريخ بين المناطق الكوردستانية، من قبل القبائل الكوردية، كان من أهم عوامل الحفاظ على الاستقلالية الذاتية والتمتع بنوع من الحرية. والانتقال ما بين الجبال والسهول، تندرج ضمن السياق ذاته، حيث التحركات الديمغرافية ضمن الجغرافية الكوردستانية، وجميعها مرتبطة بعامل البحث عن السلام، تكررت على مدى القرون، وبرزت بشكل جلي بعد انتكاسات الثورات الكوردية، وأخرها جرت بعد الثورة البارزانية الأولى والثانية، وانتقالهم في الأولى إلى شرقي كوردستان حيث الأمان تحت سيطرة القوات السوفيتية، والجمهورية الكوردستانية الحديثة (مهاباد) والثانية حيث الحماية المتوفرة من قبل السلطة الشاهنشاهية.
وما تم عرضه في الكتاب من التغيرات الديمغرافية في الجزيرة، والنسب السكانية ما بين الكورد والعرب، والمثارة منذ الثلاثينيات وحتى السبعينات من القرن الماضي، وما بعدها، كطريقة للطعن في كوردستانية الجزيرة، مطعونة فيها تاريخيا وسياسيا وديمغرافيا، ولا يمكن تثبيتها بأي مصدر أجنبي أو عربي، والتكالب المتزايد عليه من قبل بعض المثقفين العروبيين وبسند البعث سابقاً وسلطة الأسد، وحاليا عن طريق الدعم اللامباشر من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات القطرية، لن توصلهم سوى إلى مطبات منها توسيع الشرخ بين المجتمعين الكوردي والعربي ليس فقط في الجزيرة بل في كل سوريا.
يتبع…

التعليقات مغلقة.