المجلس الوطني الكوردي في سوريا

محمود عباس :الخلاف الكوردي المسيحي “الجزء الرابع”..

56

في الحلقة السابقة أشرنا إلى أهمية اللقاء والحوار، رغم صعوبتهما؛ كوننا لا زلنا غير مهيئين أن نتناسى الماضي، وذلك لعدة عوامل أهمها نزعة الانتقام التي لا زالت حية في أذهاننا، ويليها إذكاء المهيمنُ نارها في نفوسنا، وبإمكانيات هائلة مسخرة لهذه العملية، دون أن نشعر بها، نظن أنها تأتي من تلقاء نفسها. وهذا ما يرفضه الواقع العملي، فبالنظر إلى ما أراقتها أوروبا من دماء في النصف الأول والثاني من القرن الماضي لتفوق التي حصلت بيننا، وفضلا عن كل الذي جرى لها تناسته وأسست وحدة أوربية، في ظرف لم يتجاوز النصف قرن. فصار ذاك الماضي في خبر كان. وذلك لإدراكهم الواعي أن التآخي والتصالح يجب أن يسودا، وتيقنت أنهما كفيلان بارتقائها إلى حياة أفضل، وتأكدت بعقلها العلمي أن العيش المشترك ممكن، بل هو المطلوب، وليس ما سلكته عبر العصور الخالية.

 

إذا لم نعتبر من هذه التجربة للإنسان المتحضر، نستحق أن نوصم بالتخلف والتخلف المذري. لا نظن أننا نعتبر أنفسنا كذلك، حين نمطر بعضنا بعضا بوابل الاتهامات وأقذع الأوصاف. وإصرارنا على عدم التحاور ومعاينة ما حصل بيننا بأعين فاحصة، لا بد أن يبقينا متخبطين في تخلفنا؛ في حين اتباعنا المنطق السليم يكفل لنا الصون والحماية الكافية أمام المتربصين بنا، ولن يؤثر فينا تحريض المحرضين.

 

هناك عامل آخر هو أننا في بعض الأحيان لا نكتشف الوعود الخادعة من ذوي الشأن في منطقتنا، فنعقد الآمال عليها، غير أن وعودها تلك ليست إلا مراوغة ليرغموا المستحوذين علينا للتنازل لهم بقدر أكبر. فالواقع العملي يشير مؤكدا على نكوصهم في الوعود. إذا كان كل هذا لم يقنعنا بضرورة تلاحمنا وإلقاء الماضي المر جانبا، لن نستفيد من وقتنا الحالي بشيء. على الأقل أن تدفعنا هذه الوقائع الدامغة إلى الجلوس على طاولة الحوار.

 

لماذا نحن بحاجة إلى الحوار؟

 

هذا سؤال جدير بالاهتمام؛ لأن الوقت الراهن يحوي في طياته إمكانيات واعدة، تسمح لنا أن نحقق مكاسب جوهرية، إن فرطنا فيه قد لا يتكرر ذلك قبل قرن من الزمن، ومن سيضمن لنا أن نكون موجودين آنئذٍ. فالماضي القريب يخبرنا أننا لم نكن على قدر دراية الوضع آنذاك، فتحولنا إلى أداة طيعة بين يدي تركيا العثمانية وروسيا القيصرية، فحصل ما لم يكن أن يحصل. كان ذلك خطأ كبيرا وقعنا فيه. فاليوم يعيد التاريخ نفسه، ولكن بلباس جديد؛ لأن العصور تختلف فيما بينها، فكل عصر له رداؤه.

 

للإجابة على هذا السؤال، من منظارنا، يتطلب استقراء الوضع الحالي واستنباط دواعي الحوار منه. لقد تغير وضع الكرد، بعد زوال نظام صدام حسين في العراق كثيرا، لم يعد كما كان عليه من ذي قبل. صار للكرد وجود على الساحة الدولية كشعب وليس كأقلية، ولم تعد الدول المعنية بالمنطقة تتغاضى عن الكرد وعن امتدادهم في دول الجوار، علاوة على الاعتراف الرسمي به في العراق. هذا عامل مهم للاستفادة منه. وهذا الوجود إن لم يكن قد أخذ حقه بالكامل، فالمؤشرات تؤكد أنه سيحصل عليه، إنما هي مسألة وقت لا أكثر. وفي سوريا تُؤكّدَ الوجود الكردي كشعب على أرضه، وهناك دلالات قوية أن يتحقق له ما تحقق لأشقائه في العراق. أما في إيران وتركيا؛ حيث يُعتبر الكرد من مكوناتهما، رغم أنهما من الأنظمة الشمولية، والرافضة للوجود الكردي، سُمح لهم، وعلى مضض، بتطوير أدبهم وثقافتهم، كما سُمح لهم بفتح قنواتهم الفضائية بلغتهم، حتى ولو كانت مطعونة في مصداقية هذا الإعلام، فلم يعد ممنوعا عليهم أن يكونوا كردا، رغم الحجر الكلي على كردستانيتهم والمنطقة. من هذا يُفهم أنهما أي كرد إيران وتركيا، ينحوان نحو الاعتراف بهما ليس كمكون فحسب؛ وإنما كشعب يعيش على أرضه، وهذا قد يأخذ بعض الوقت، طويلا كان أو قصيرا، فالعجلة بدأت تدور، ومصالح الدول المعنية تقتضي أن لا يُهمش الكرد. كي لا نطول الحديث نكتفي بهذا القدر عما عليه الكرد اليوم، على أن نعود إليه، إذا اقتضت الحاجة، في مقالات لاحقة.

 

أما وضع أخوتنا المسيحيين، يختلف عن وضع الكرد، ولأسباب عديدة، وهم أي أخوتنا أدرى منا بوضعهم، مع ذلك سندلو بدلونا، ربما يجدوننا صائبين، نقول ربما! لكوننا نمد لهم اليد للتعاون في هذه المرة، وليس كما مر أن نتقاتل لصالح مستأصلينا.

 

منذ الغزو العربي لإخوتنا وإلى اليوم يتقلص عددهم لصالح الإسلام والعروبة، أي أن الذي يتحول من ديانته المسيحية إلى الإسلام، لم يثابر على لغته الأم؛ ليستمر هو وبنو جلدته كشعب، فاندمج في العربية تاركا الآرامية (السريانية لاحقا) وبعد جيل أصبح ويصبح المتحول دينا مسلما عربيا، وليس مسلما آراميا (سريانيا) كالتركي؛ والألباني؛ والشركسي…، ومع مرور الزمن ازداد عدد المسلمين العرب -ويزداد حتى اللحظة- على حساب المسيحيين الآراميين والقبط، في شرقنا، مثلما حصل في شمال أفريقيا على حساب الأمازيغ. ربما لم يفطن إخوتنا إلى خطر هذا التحول في اللغة على أنه قضاء مبرم وفناء لشعب كان عظيما، فيكفيه فخرا أنه شعب سيد المسيح، وهو الشعب الذي منه والدة صاحب أكبر ديانة عالمية، ناهيكم عن العلوم التجريبية والفلسفة واللغة، والكتابة، والأدب وغيرها كثير، فهو شعب له أياد بيضاء على البشرية إن شاءت البشرية أم أبت.

 

ولكن الخلف بعد الغزو ما أبدى تلك العظمة التي تحلت بها أسلافه، ولم يصمد أمام العقيدة الإسلامية، فانحل فيه دينا ولغة، عندما نقول لغة نعني به أيضا من لم يغير دينه؛ وإنما غير لغته! فصار مسلما عقيدة ولغة. أنهى بذلك شعبا أدانت روما العظيمة بعقيدته، والمحير أنه ذاب في العرب الذين لم يكن لهم شيء سوى الإسلام، وليس لهم تاريخ سواه. وما حصل لهؤلاء أصحاب الحضارة كأنهم لم يكنوا أصاحبها.

 

يشهد التاريخ لشعوب لم يحظوا بمثل حضارتهم مع ذلك حافظوا على أنفسهم. ما نلاحظه كأن هذا الشعب كانت تنقصه قوة الشخصية، فالذي أذابه كان أقل منه مرتبة في كافة النواحي بدرجة لا يوجد فيه وجه المقارنة. كانوا حفاة عراة بدوا، رعاة البعير، وكان ديدنهم السلب والنهب، جاؤوا من الصحراء ليقضوا على تلك الحضارة والعلوم، وعلى واجديهما، وليس هذا فحسب، بل كانوا هؤلاء العرب خدما للساسانيين والروم، وتاريخهم لا يخفي ذلك، كل ما تميزوا به هو أنهم تملكوا عقيدة كانت امتدادا لعقيدة هذا الشعب الحضاري نفسه.

 

وهذا الاندثار في هؤلاء، وبهذه الطريقة، مدعاة للاستغراب. قد يرى المرء مبررا (مع العلم أنه ليس كذلك) لمن صار منهم مسلما له الحق أن يتخلى عن لغته، أما من بقي على دينه كيف سمحت له نفسه ومكانته كشعب عريق أن يتخلى هو عن لسانه لينهي بذلك شعبا أصيلا من على وجه الأرض؟ فالترك والسلاجقة والتركمان… والقائمة طويلة لم يكن لهم تاريخ مبهر كما هو لهذا الشعب، بالرغم من تحولهم إلى الإسلام حافظوا على لغتهم، وبالمحافظة عليها لم يندثروا في المسلمين العرب. والإسلام لا يمنع المرء من الاحتفاظ بلغته، وهذا خير حجة على من ترك دينه مضحيا بلغته…

 

يتبع…

المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع 

 

 

التعليقات مغلقة.