المجلس الوطني الكوردي في سوريا

بارزاني وجذور انعدام ثقة الكورد بالولايات المتحدة الأمريكية..

57

خريف هذا العام، مُني الكورد بالإخفاق الأكبر خلال ربع القرن الفائت فيما يخص قضية الاستقلال، الزعيم الكوردي، مسعود بارزاني، تنحى عن السلطة ملقياً باللائمة على الولايات المتحدة لعدم دعمها الشعب الكوردي، ورغم أن استقالة بارزاني كان أمراً سيئاً لكنه كان معتاداً، فحياة بارزاني نفسه شاهدة على تكرار ما حصل.

بارزاني زار البيت الأبيض للمرة الأولى في 31 تموز 1992، وكنت حينها مديراً لقسم الشؤون الكندية وجنوب آسيا في مجلس الأمن القومي الأمريكي، لذا كانت إدارة الزيارة من مهامي، حينها كان قد مر عام ونصف على تحرير الكويت، وكان الرئيس جورج بوش يواجه انتقادات بالسماح لصدام حسين بالبقاء على كرسي السلطة في العراق، وكان بوش يتذرع حينها بأن الولايات المتحدة لا تملك سلطة الدخول إلى بغداد والإطاحة بالسلطة في العراق، كما أن احتلال العراق سيضع الولايات المتحدة في مستنقع عميق، لكنه لم يستطع إسكات المنتقدين.

كان بارزاني أحد قادة المعارضة الستة الذين زاروا البيت الأبيض، وكان الأكثر جدارة بالثقة، لكنه كان في الوقت نفسه صعب الإقناع، وطوال الزيارة كان ينظر بعين الريبة للنوايا الأمريكية، كان يجلس في غرفة روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأسبق، وهو يدرك عدم إمكانية تلبية الدعوات والتحذيرات الأمريكية، لكنه كان يعلم أيضاً أن تلك الدعوات والتحذيرات أوهام كارثية.

وفي الوقت ذاته، لم يكن استيعاب احتراس بارزاني وتحفظه بالأمر الصعب، ففي سبعينيات القرن الماضي، قاد مصطفى بارزاني والد مسعود بارزاني، انتفاضة الكورد ضد بغداد، وكانت هذه الحركة تلقى دعماً سرياً من شاه إيران ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية والموساد الإسرائيلي، وبخلاف كل التوقعات تمكن الكورد من إخراج الجيش العراقي من أجزاء واسعة من كوردستان.

وفي عام 1975، وقع شاه إيران اتفاقية بشأن الحدود المتنازع عليها مع صدام حسين، تاركاً الكورد في مأزق، وحينها لم تقم الولايات المتحدة بأي شيء لمساعدة الكورد، وقامت بدلاً من ذلك بعرض منفى آمن للبارزاني، ودفع الكورد حينها ثمناً غالياً، لأنهم وثقوا بحلفائهم، وقضى مصطفى بارزاني آخر أيامه في منفى بشمال فرجينيا، ولا تزال مقولة هينري كيسينجر وزير الخارجية الأمريكي آنذاك متداولة حينما قال: “دعوا الكورد، فإنهم لا يستطيعون تقبل المزاح كما هو” وكذلك: “النشاط السري يجب أن لا يخلط بالنشاط التبشيري”.

وفي ثمانينات القرن الماضي، شارك الكورد في الحرب الإيرانية العراقية ضد النظام الإيراني، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، ظهر صدام حسين بشكل أكثر بشاعة وقسوة، ومرة أخرى لم تحرك واشنطن ساكناً، فقُتل آلاف الكورد وأجبر عشرات الآلاف على السكن في المجمعات قسراً.

وفي عام 1991، قمع صدام حسين انتفاضة أخرى للكورد بدم بارد، وفر عشرات آلاف الكورد إلى تركيا –حليفة أمريكا في حلف شمال الأطلسي- وحينها تدخل البيت الأبيض بفرض منطقة حظر جوي في شمال العراق.

عندما وصل مسعود بارزاني إلى البيت الأبيض، كان يحمل في ذاكرته إرثاً من نماذج الخيانات الأمريكية عبر التاريخ. الجنرال برينت سكوكروفت، مستشار الأمن الوطني في إدارة بوش، الذي كان مطلعاً بشكل جيد على هذا الماضي، استضاف الاجتماع، لكنه على غرار بارزاني، لم يكن متحمساً لذلك، حيث لم يكن يشعر بالاطمئنان، وكان سكوكروفت يؤكد باستمرار على موقف الولايات المتحدة الداعم لوحدة الأراضي العراقية، وكانت تلك إشارات ضمنية للرفض الأمريكي لاستقلال الكورد.

مصطلح “وحدة الأراضي” كان يدل على الخارطة الجيوسياسية غير المشروعة للشرق الأوسط، كما أن دول جوار العراق تعارض استقلال كوردستان، بسبب وجود سكان كورد فيها، فيما يرفض العالم العربي الاستقلال تحسباً من أن يشكل ذلك دافعاً لنهضة الأقليات فيها، وظلت الإدارات الأمريكية المتلاحقة سواء بزعامة الجمهوريين أو الديمقراطيين متمسكة بالموقف ذاته.

في نيسان 1993، أي بعد عام من عقد اجتماع سكوكروفت، استضاف آلغور، نائب الرئيس بوش، اجتماعاً مع قادة المعارضة العراقية، في مكتبه الرسمية، وفي هذه المرة أيضاً كان بارزاني الأقل حماساً بين الحاضرين، حيث بدا عابساً في كل الصور، وكانت شكوكه واضحة للعيان.

في عام 1994 زرت برفقة عدد من المسؤولين الأمريكيين منطقة الحظر الجوي في إقليم كوردستان، وكانت المنطقة تحت التهديدات المستمرة لصدام حسين، لكن الرئيس بيل كلينتون كان يريد إظهار تضامنه مع المعارضة. مسعود بارزاني استقبلنا برحابة وحفاوة، لكنه مع ذلك كان ينظر بعين الريبة للأمريكيين، لقد ذهبنا إلى كوردستان وغاردنا منها بمروحية “إرساء السلام”، وبعد أسبوعين أسقطت المروحية من قبل الولايات المتحدة عن طريق الخطأ.

لكن مسعود بارزاني اتفق مع صدام حسين في آب 1996 وسمح للجيش العراقي بدخول أربيل وتصفية أعضاء المعارضة العراقية، ليكتسب قوة ضد غريمه التقليدي، جلال الطالباني، فقُتل العشرات من معارضي صدام، وكان الأمريكيون يتفرجون على ما يحصل دون القيام بأي شيء لإيقاف ذلك.

إدارة كلينتون عكفت طوال العام التالي على رعاية مفاوضات سلام بين طرفي النزاع الكوردي، وشارك الطالباني في اجتماع سكوكروفت بتموز 1992، وكان يتوق لتكون الخطوة الأولى له في واشنطن ناجحة إلى الحد الذي نسي فيه حقيبته ولم يصطحب معه أي أوراق ثبوتية، وكان عليّ إقناع الاستخبارات بأن هذا العراقي الذي لا يحمل أي جواز سفر أو بطاقة مصرفية لا يشكل خطراً على البلاد.

يبدو أن مسعود بارزاني ينوي الآن إنهاء عمله السياسي، على الرغم من أن التنحي عن السلطة لم يكن أبداً أحد اختيارات السياسيين في الشرق الأوسط. وبعد إجراء استفتاء استقلال إقليم كوردستان، شهد بارزاني بسط بغداد سيطرتها مرة أخرى على كركوك والحقول النفطية التي كان الكورد بأمس الحاجة إليها، وتراجع آمال تحقق طموحات الكورد، وذلك في الوقت الذي كان يبدو فيه أن الكورد أقرب ما يكونون من الوصول إلى قمة النجاح، واللوم يُلقى على بارزاني بشكل كبير، رغم أن أنصاره ومحبيه يكنون له مشاعر الوفاء.

إيران هي مهندسة التصعيد والتحشيد ضد بارزاني، ورد فعل البيت الأبيض إزاء الخطط الإيرانية كان متراخياً جداً، وانتصرت إيران في أول تحدٍ ضد أمريكا، حيث تمخض عن أول اختبار لاستراتيجية ترمب المتشددة، نجاح ولاية الفقيه والحرس الثوري الإيراني، وانكسار هذا الجزء من سكان العراق الذي يُعتبر الأكثر تأييداً للولايات المتحدة.

ومرة أخرى، يلقي بارزاني اللوم على أمريكا لتخليها عن الكورد، واستخدام الأسلحة التي وفرتها الولايات المتحدة ضد الكورد من قبل قوة عراقية مدعومة من إيران، بارزاني أثبت بالأدلة القاطعة أن الكورد كانوا حلفاءً رئيسيين في الحرب ضد داعش، كما حاربوا سابقاً صدام حسين عام 2003 والقاعدة بعد ذلك، لكن الولايات المتحدة مستمرة منذ عقود في نهج سياستها (مع الكورد)، وبارزاني كان على حق.

بروس ریدل: باحث ومدير الدراسات الاستخبارية في معهد بروكنجز.

نقلاً عن رووداو

التعليقات مغلقة.